فشلت محاولات التشويه والحرب الإعلامية, التي كان الكفار يمارسونها على الدعوة الإسلامية في بداية عهدها، لأن صوت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان أقوى من أصواتهم، وثباته على دينه وعقيدته ومبادئه كان أعلى بكثير مما كان يتوقعه أعداؤه، وكانت شمائله وأخلاقه تبعث النور إلى قلوب من يراه ويعرفه، وكان من هؤلاء الذين دخل نور الهداية والإيمان إلى قلوبهم أبي ذر الغفاري ـ رضي الله عنه ـ .
كان أبو ذر - رضي الله عنه ـ من قبيلة غفار الواقعة بين مكة والمدينة، وقد اشتهرت هذه القبيلة بالسطو، وقطع الطريق على المسافرين والتجار وأخذ أموالهم بالقوة . وكان ـ رضي الله عنه ـ قبل إسلامه يأبى عبادة الأصنام، وينكر على من يشرك بالله، ولما سمع بأمر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أرسل أخاه، ليعلم له علم ـ النبي صلى الله عليه وسلم ـ ويسمع من قوله ثم يأتيه، فانطلق الأخ حتى أتى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وسمع من قوله، ثم رجع إلى أبي ذر فقال له : " رأيته يأمر بمكارم الأخلاق، وكلامًا ما هو بالشعر "، فقال أبو ذر: ما شفيتني مما أردت، وعزم على الذهاب بنفسه لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
ويروي لنا البخاري في صحيحه قصة إسلام أبي ذر ـ رضي الله عنه ـ فيقول: ( قال لنا ابن عباس: ألا أخبركم بإسلام أبي ذر؟، قال : قلنا : بلى، قال : قال أبو ذر : كنت رجلا من غفار ، فبلغنا أن رجلا قد خرج بمكة يزعم أنه نبي ، فقلت لأخي : انطلق إلى هذا الرجل كلمه وأتني بخبره ، فانطلق فلقيه ثم رجع ، فقلت : ما عندك ؟ فقال : والله لقد رأيت رجلا يأمر بالخير وينهى عن الشر ، فقلت له : لم تشفني من الخبر ، فأخذت جرابا وعصا ، ثم أقبلت إلى مكة ، فجعلت لا أعرفه ، وأكره أن أسأل عنه ، واشرب من ماء زمزم وأكون في المسجد ، قال : فمر بي عليّ ـ رضي الله عنه ـ فقال : كأن الرجل غريب ؟!، قال : قلت : نعم ، قال : فانطلق إلى المنزل ، قال : فانطلقت معه ، لا يسألني عن شيء ولا أخبره ، فلما أصبحت غدوت إلى المسجد لأسأل عنه ، وليس أحد يخبرني عنه بشيء ، قال : فمر بي عليّ ، فقال : أما نال للرجل يعرف منزله بعد ؟ قال : قلت : لا ، قال : انطلق معي ، قال : فقال : ما أمرك ، وما أقدمك هذه البلدة ؟ قال : قلت له : إن كتمت عليَّ أخبرتك ، قال : فإني أفعل ، قال : قلت له : بلغنا أنه قد خرج ها هنا رجل يزعم أنه نبي ، فأرسلت أخي ليكلمه ، فرجع ولم يشفني من الخبر ، فأردت أن ألقاه ، فقال له : أما إنك قد رشدت ، هذا وجهي إليه فاتبعني ، ادخل حيث ادخل ، فإني إن رأيت أحدا أخافه عليك ، قمت إلى الحائط كأني أصلح نعلي وامض أنت ، فمضى ومضيت معه حتى دخل ودخلت معه على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فقلت له : اعرض علي الإسلام ، فعرضه فأسلمت مكاني ، فقال لي : يا أبا ذر ، اكتم هذا الأمر ، وارجع إلى بلدك ، فإذا بلغك ظهورنا فأقبل ، فقلت : والذي بعثك بالحق ، لأصرخن بها بين أظهرهم ، فجاء إلى المسجد وقريش فيه ، فقال : يا معشر قريش ، إني أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، فقالوا : قوموا إلى هذا الصابئ ، فقاموا فضربت لأموت ، فأدركني العباس فأكب عليَّ ثم أقبل عليهم ، فقال : ويلكم ، تقتلون رجلا من غفار ، ومتجركم وممركم على غفار ، فأقلعوا عني ، فلما أن أصبحت الغد رجعت ، فقلت مثل ما قلت بالأمس ، فقالوا : قوموا إلى هذا الصابئ ، فصنع بي مثل ما صنع بالأمس ، وأدركني العباس فأكب عليّ ، وقال مثل مقالته بالأمس . قال : فكان هذا أول إسلام أبي ذر ) .
من اللحظة الأولى لإسلام أبي ذر ـ رضي الله عنه ـ حمل هم الدعوة إلى الله، فدعا أخاه وأهله وقبيلته للدخول في الإسلام فأسلموا جميعا ، ففي رواية لمسلم أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال لأبي ذر: ( إنه قد وجهت لي أرض ذات نخل، لا أراها إلا يثرب، فهل أنت مبلغ عني قومك، عسى الله أن ينفعهم بك ويأجرك فيهم، فأتيت أنيسا فقال: ما صنعت؟، قلت: صنعت أني قد أسلمت وصدقت، قال: ما بي رغبة عن دينك . فاحتملنا حتى أتينا قومنا غفارا، فأسلم نصفهم، وكان يؤمهم إيماء بن رحضة الغفاري - وكان سيدهم، وقال نصفهم: إذا قدم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ المدينة أسلمنا. فقدم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأسلم نصفهم الباقي، وجاءت أسلم فقالوا: يا رسول الله، إخوتنا، نسلم على الذي أسلموا عليه، فأسلموا، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم: غفار غفر الله لها، وأسلم سالمها الله ) .
ومن قصة إسلام أبي ذر ـ رضي الله عنه ـ يظهر لنا حكمة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وحرصه على أمن أصحابه وسلامتهم، حيث أمر أبا ذر بالرجوع إلى أهله وكتمان أمره حتى يظهره الله، فقال له : ( يا أبا ذر ، اكتم هذا الأمر، وارجع إلى بلدك، فإذا بلغك ظهورنا فأقبل )، وصدق الله تعالى إذ قال عن نبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ : { حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ }(التوبة: من الآية128) .
ومع فضل ومنزلة أبي ذر ـ رضي الله عنه ـ، الذي قال عنه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( ما تُقِلُّ الغَبراءُ ولا تُظِلُّ الخضراءُ على ذي لهجةٍ أصدقَ وأوفَى من أبي ذرٍّ ـ شبيهِ عيسى بن مريم ـ فاعرِفوا له ) رواه ابن حبان ، ومع الأثر الدعوي الكبير له إذ أسلم قومه جميعا على يديه، فإن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ رأى أنه لا يصلح للإمارة, فلكل شخص مجاله الذي يصلح له, وميدانه الذي يقوم بواجبه فيه، وهذا درس نبوي يبين حكمة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في تعامله وتربيته لأصحابه، فقد روى مسلم في صحيحه عن أبي ذر ـ رضي الله عنه ـ قال: ( قلت: يا رسول الله ألا تستعملني؟، قال: فضرب بيده على منكبي ثم قال: يا أبا ذر إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها ) رواه مسلم .
قال النووي : " قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( يا أبا ذر إنك ضعيف وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها )، وفي الرواية الأخرى: ( يا أبا ذر إني أراك ضعيفا وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تأمرن على اثنين ولا تولين مال يتيم ).هذا الحديث أصل عظيم في اجتناب الولايات لا سيما لمن كان فيه ضعف عن القيام بوظائف تلك الولاية، وأما الخزي والندامة فهو في حق من لم يكن أهلا لها، أو كان أهلا ولم يعدل فيها، فيخزيه الله تعالى يوم القيامة ويفضحه، ويندم على ما فرط " .
والمتأمل في قصة إسلامِ أبي ذرّ وشخصيته عموماً، يدركُ أثرَ تربية النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأصحابه في تغيير عاداتهم وأخلاقهم إلى الأحسن والأفضل، فغفارَ - التي ينتسب لها أبو ذرّ كانت من الشِّدة والقسوة ما جعلَها في طليعة القبائل القائمة على الغارة والنهب والسَّلْب، حتى إذا قذفَ اللهُ الإسلامَ في قلب أبي ذرّ وقومه تغيرت الحال، وصار أبو ذرٍّ ـ رضي الله عنه ـ نموذجاً للزُّهد والعفاف، حتى ودّعَ الدنيا وهو لا يملك من متاعها شيئا، فقد روى ابن حبان في صحيحه عن أمِّ ذرٍّ - رضي الله عنها - قالت: ( لما حضرتْ أبا ذرٍّ الوفاةُ بكيتُ، فقال أبو ذر: ما يُبكيك؟ فقلتُ: ما لي لا أبكي وأنتَ تموتُ في فَلاةٍ من الأرض، ليس عندي ثوبٌ يَسعُكَ كفناً، ولا يَدَانِ لي في تَغييبكَ، قال: أبشري ولا تبكي، فإني سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ لنفرٍ أنا فيهم: ليَموتَنّ رجلٌ منكم بفلاةٍ من الأرض يَشهدُهُ عصابةُ (جماعة) من المسلمين، وليسَ أحدٌ من أولئكَ النفرِ إلا وقد ماتَ في قرية وجماعة، فأنا ذلك الرجلُ، فوالله ما كَذَبْتُ ولا كُذِبْتُ، فأبصري الطريقَ. فقلتُ: أَنّى وقد ذَهبَ الحاجُّ وتقطَّعتِ الطرقُ، فقال: اذهبي فتبصَّري، قالت: فكنتُ أُسندُ إلى الكَثيبِ (الرمل) أتبصّرُ، ثم أرجعُ فأمَرضهُ، فبينما أنا وهو كذلك، إذ أنا برجالٍ على رحالِهم، كأنهم الرّخَمُ (نوع من الطير)، تَخُبُّ بهم رواحلُهم، قالت: فأشرتُ إليهم فأسرعوا إليّ حتى وقفوا عليَّ، فقالوا: يا أمة الله ما لكِ؟ قلتُ: امرؤٌ من المسلمين تُكفِّنونه، قالوا: ومن هو؟ قلت: أبو ذرٍّ، قالوا: صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم-؟!، قلتُ: نعم، فَفدَوه بآبائهم وأمهاتهم وأسرعوا عليه حتى دخلوا عليه، فقال لهم: أبشروا، فإني سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول لنفرٍ أنا فيهم: لَيَموتنّ رجلٌ منكم بفلاةٍ من الأرضِ يشهدُه عصابةٌ من المؤمنين، وليس من أولئك النفرِ رجلٌ إلا وقد هلكَ (مات) في جماعة، والله ما كَذَبتُ ولا كُذبتُ، إنه لو كان عندي ثوبٌ يَسعُني كفنٌ لي أو لامرأتي لم أكفّن إلا في ثوبٍ هو لي أو لها، فإني أُنشدكم اللهَ، ألا يكفنني رجلٌ منكم كان أميراً أو عريفاً أو بريداً أو نقيباً وليس من أولئك النفرِ أحدٌ إلا وقد قارفَ بعضَ ما قال إلا فتىً من الأنصار، قال: أنا يا عمُّ أُكفنكَ في ردائي هذا، وفي ثوبين من عَيبتي من غَزْلِ أُمي، قال: فكفِّني، فكفّنه الأنصاريُّ، وقاموا عليه وكفَّنوهُ في نَفَرٍ كلُّهم يَمانٍ ) .
رضي الله عن أبي ذر ، وعن سائر أصحاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ..